كان مِن الممكن جدًا، أن يكون عزلي من الجمعيَّة العموميَّة الوطنيَّة (البرلمان) سببًا لإهانتي. على كلِّ حال، هذه الإهانة هي ما كان يهدف إليها خصومي. أحدُ أصدقائي المُسمَّى هارون جاه، وهو رجل أعمال مُقيم في واغادوغو، وصلَت إليه بعض الخطط السِّرِّيَّة لرئاسة الجمهوريَّة الهادفة إلى تدميري. أخبرَه بهذه الخطط أحد مُستشاري واد، الأكثر عداوةً لي. هذا المستشار قال له يومًا: “إنَّ ماكي صال يريد أن يلعب لعبة خطيرة معنا، لكنَّه سيندم”.
في 1 ديسمبر 2008، دعوتُ إلى مؤتمر صحفيٍّ للإعلان عن تأسيس حزبي “التَّحالف من أجل الجمهوريَّة”.
تكوَّنت مجموعة نضاليَّة معروفة باسم (Fippu/التَّمرُّد) تضم بعض الأصدقاء الأوفياء لي. ولم يكن الأمر، في البداية، حزبًا سياسيًّا بالمعنى التَّقليديِّ للكلمة، إنَّما كان، بعبارة أصحَّ، حركة سياسيَّة مُتولِّدة، تتكوَّن أساسًا من الطَّلبة اللذين يعارضون، بشدَّة، القرارات التَّعسُّفيَّة للرَّئيس عبد الله واد.
وتمَّ عقدُ المؤتمر الصَّحفيِّ في أحد فنادق مدينة دكار.وذكرتُ خلال المؤتمر الصَّحفيِّ أهمَّ المبادئ الَّتي ننوي إقامةَ عملِنا السِّياسيِّ عليها. وحاولت صياغةَ هذه المبادئ في العبارات التَّالية:
- خدمة الوطن قبلَ خدمة الحزب.
- التزامي النِّضال نابعٌ مِن استلهامي المستمرِّ مِن أحد مبادئ حياتي وهو “عَظَمَتُنا تكمن في قرارنا بأن نكون أقوى من أوضاعنا”.
- الاقتناع بأنَّ العمل السِّياسيَّ، يمكن القيام به على نحو يتوافق ويتناغم مع الضَّمير المهنيِّ والأخلاق والأمانة.
- عزَّة النَّفس يجب أن تكون أجملَ لباس للإنسان في جميع أحواله، لأجل هذا، كنتُ أرفض، دائمًا، كلَّ ما يُهدِّد عزَّة النَّفس، وأنَّه إذا كان التَّنكُّر لمبادئي هو الطَّريق لكي أعيش، فأنا أرفضُ ذلك تمامًا. النِّضال من أجل أن تبقى الجمهوريَّة مصونة في مبادئها الأصليَّة. وقمتُ بهذا النِّضال في وجه أخطار كانت تُنذر بسيادة النَّزعة الاستبداديَّة المبنيَّة على المحسوبيَّة وتقديم الأقارب.
التحالف من أجل الجمهورية
التقينا جميعًا حولَ هذه القِيَم. ولأجلِ هذا، أطلقنا على الحزب الَّذي كَوَّنَّاه معًا اسم “التَّحالف من أجل الجمهوريَّة”. التَّحالف، لأنَّه لم يكن لنا بُدٌّ مِن تضافر الجهود وتوحيد الاتِّجاهات لحماية القضايا الأساسيَّة في بلدنا.
بعدَ الإفصاح عن برنامج الحزب شرعنا في إنجاز العمل الجادِّ، مع العلم أن معسكر رئيس الجمهوريَّة لم يتركنا من دونَ محاولة عرقلتِنَا. وهكذا تمَّ طردُ نائبين برلمانيَّينِ قريبَينِ منِّي من الجمعيَّة العموميَّة الوطنيَّة.
كانت الطَّريقة المُستخدمة جديرة بالأنظمة الدِّكتاتوريَّة الشُّموليَّة! كان رجال السُّلطة يتتبَّعون الصُّوَر، فكلُّ مَن رأوه معي في صورة يعتبرونه مَطرودًا من حزبهم عمليًا. ذلك أن هناك قانونًا مُفصَّلًا على المقاس، ينصُّ على أن أيَّ نائب برلمانيٍّ إذا غادر حركتَه السِّياسيَّة، فإنَّه يفقد، في الحال، ولايتَه الانتخابيَّة. وهكذا لَووا أعناقَ النُّصوص، وتمَّ طردُ امبي نجاي ومصطفى سيسه لولا بكلِّ استخفافٍ لمشاعر مَن انتخبوهما بصفة شرعيَّة!.
وهناكَ حدثٌ أيضًا في سنة 2009، لم يكن هو الآخَر، أقلَّ إثارةً للتَّعجُّب!
هذا الحدث يكمن في دخول ابن الرئيس واد، كريم واد، في الحكومة وتعيينه وزير الدَّولة المُكلَّف التعاون الدُّوليِّ والتَّدبير المجاليِّ والنَّقل الجوِّيِّ والمُنشآت، وهذا التَّعيين جلبَ له لقَبًا تهكُّميًا هو “وزير شؤون السَّماء والأرض”!
هدفي الأوَّل كان يتمثَّل في انتخابي، مِن جديد، عُمدةً لمدينة فاتيك. وكنتُ أرى أنَّه يجب عليَّ أن أتمتَّع بولاية سياسيَّة وبقلعة سياسيَّة تابعة لي أيضًا، لكي أوجد في أرضيَّة صلبة، لأنَّني كنت مُجرَّدًا من كلِّ شيء، إلَّا مِن كوني رئيسًا لحزبٍ سياسيٍّ جديد. وبذلك أصبحتُ مُعارضًا مع أنصار قليلين ووسائل مادِّيَّة هزيلة.
انطلاقا من ذلك ، قرَّرتُ مواجهة عبد الله واد، وكنتُ على عِلم تامٍّ بأنَّه لن يتردَّد في بذل كلِّ ما في وسعه لسحقي ومحقي وتدميري! في هذه اللَّحظة، بدأت حياتي تأخذ منحىً آخَر، مُهمًا للغاية. وكنت قد ارتأيت بأنَّني، إذا أردتُ تحقيق غايتي إلى أقصى الحدود، لا بُدَّ لي من القيام بجولة تشمل كافَّة بقاع السِّنِغال ومناطقها، تجعلني ألتقي بالنَّاس وأتعرَّف على أوضاعِهم وأستنشقُ عبيرَ نكهة حياتهم. وهكذا بدأتُ مسيرةً طويلةً جدًا. وكنت أقارن نفسي في هذه الجولة الشَّاملة لكافَّة أراضي السِّنِغال، مع ماو تسي تونغ، وأنا أتذكَّر مقولتَه حولَ ضرورة البدءِ بالأرياف لتطويق المُدن في سبيل الانتصار.
في ما يتعلَّق بنا، لم يكن لنا برنامج إيديولوجيٌّ، إنَّما كُنَّا نُدرك ضرورةَ مغادرة المدن للذَّهاب في سبيل اكتشافِ جميع بقاع السِّنِغال، بما فيها القُرى النَّائية جدًا والأكواخ المُهملة للغاية، حيث لا توجد الكهرباء، والحصول على الماء لا يتأتَّى إلَّا مِن مكان بعيد.
كنتُ أفكِّر في الانتخابات الرِّئاسيَّة المقبلة، لكنِّي كنتُ أريد، أوَّلًا، ترسيخ الحزب السِّياسيِّ الجديد، على امتداد التُّراب الوطنيِّ، وفي كافَّة الأقاليم.
كان أصدقائي ينظرونَ إليَّ بعيون ملؤها التَّعجُّب، لأنَّهم لم يكونوا يرونَ فائدةً تُذكَر في هذه الرِّحلة المُنهكة! وكانوا يرون بأنَّ الانتخابات الرِّئاسيَّة ستتمُّ أهمُّ حلقاتِها في المدن الكبيرة مثل دكار وتياس وكولخ وزيغيشور وسان لويس. وكنتُ أردُّ على هؤلاء بأنَّنا نسينا، منذ مُدَّة طويلة، المناطق الرِّيفيَّة العميقة والنَّائية جدًا في السِّنِغال، كما نسينا هؤلاء السُّكَّان الَّذين لا يرون ظِلًا لأدنى موظَّف حكوميٍّ.
شكَّلَت الانتخابات المحلِّيَّة في سنة 2009 معيارًا كبيرًا في هذا المجال.
قمتُ بجولة استغرقَت قرابة ثلاث سنوات قطعِت خلالها 80 ألف كيلومتر، تساوي ضعفَي محيط الأرض.
في قرية ’’بوكي سابوندو’’
هناك لقاءٌ أثَّرَ في نفسي تأثيرًا عميقًا، جرى في قرية تُسمَّى “بوكي سابوندو”، وكنتُ بصحبة بعضِ المُقرَّبين، من ضمنهم فاربانغوم، أحد رفقاء السَّاعة الأولى. في ذلك اليوم، قطعنَا مسافة ثماني ساعات بالسيَّارة، خارج الطَّريق المُعبَّدة، كي نصلَ إلى هذه القرية الَّتي تُشكِّل أرضًا لا يرغب فيها أحد، وتقع في أعماقِ مقاطعة كانيل في شمال السِّنِغال.
كنتُ أتحدَّث مع أحد أعيان القرية، فقال لي: “المرَّة الوحيدة الَّتي تلقَّينا فيها زيارة من أحد مُمثِّلي الدَّولة، كان في شخصٍ دَرَكيٍّ جاء لإلقاء القبض على أحد أهالينا”، ثمَّ أضاف قائلًا: “قبل مدَّة وجيزة، قُمنا بدفنِ ابنٍ لي، سقطَ من حصان فمات، لأنَّ المستشفى بعيدٌ جدًا”.
في قرية “مباجانين”، الواقعة في منطقة سالوم، قرب ماليمهودار، قال لي شيخُ القرية المُسنُّ: “يا سعادة الرَّئيس، (كان النَّاس يسمُّونَني بهذا بوصفي رئيسًا سابقًا للجمعيَّة العموميَّة الوطنيَّة) إن تقاليد الضِّيافة تقتضي منِّي أن أُقدِّمَ إليك، أوَّلًا، الماء للشُّرب، لكني عاجز عن القيام بذلك، لأنَّ النِّساء خرجنَ، منذ الصَّباح، للبحثِ عن الماء. لأجل هذا الأمر، لا أستطيع تقديمَ الماء إليك”.
منذ مُدَّة طويلة، زُوِّدَت القرية الأولى بالطَّاقة الشَّمسيَّة، والقرية الثَّانية ببئر ارتوازيَّة.
إنَّ هذه النَّماذج لحالات تمسُّ شغافَ القلب، وتحملُك على عمل شيء واقعيٍّ مَلموس.
إنَّ هذه الجولة لِملاقاة السِّنِغاليِّين غيَّرتني، رأسًا على عقب، وولَّدَت لديَّ إرادة قويَّة لبذل كلِّ ما في وسعي في سبيل تنمية البلد. وضعت، مرَّةً أخرى، سرج التِّرحال على جوادي في سبيل مُلاقاة مواطنين بُسطاء في أماكن نائية جدًا. هنالِك أدركتُ تمام الإدراك، أنَّه مع إخلاصنا ومع الأعمال الَّتي تمكنَّا مِن إنجازها، وعلى الرَّغم مِمَّا ظننَّا أنَّنا قُمنا به من نتائج، فإنَّنا لا نزال بعيدين كلَّ البُعد عن الغاية المطلوبة،وبالتالي يجب تغيير نمط الرُّؤية في هذا الإطار.
إعادة ترتيب الاولويات السياسية
إنَّ هذه الرِّحلة جعلتني أقتنعُ بضرورة التَّفكير في إعادةِ ترتيب الأولويَّات السِّياسيَّة القائمة حينها. من المهمِّ جدًا العملُ على حلِّ المشاكل الَّتي تُمثِّل قواسم مشتركة بين مُختلف القُرى والتَّجمُّعات الَّتي زرتُها في السِّنِغال.
هناك ثلاثة مطالب شكاوى كانت تتكرَّر دائمًا وهي: إمَّا انقطاع التَّيَّار الكهربائيِّ، أو انعدام الكهرباء كلِّيًا، أو انعدام الماء أو عدم وجود الطُّرق المُعبَّدة. وكان مِن أهمِّ المطالِب أيضًا: توفير فرص عمل النِّساء في المناطق الرِّيفيَّة.
كنتُ أُقيم شهرًا كاملًا خارج دكار، وكنتُ كلَّما ذهبتُ إلى إقليم، أزور جميعَ مقاطعاته ومحافظاته، وأبيتُ في بعضِ الأحيان في ضيافة أحد سُكَّان هذه القرى، أو في منزل أحد الأصدقاء مِن السِّنِغاليِّين في الشَّتات. وهناك بعض المقاطعات الَّتي كُنَّا ننام فيها في النُّزل أو في منازل على شكل فنادق.
إنَّ السَّفَر في طرق غير مُعبَّدة، كان يُعرِّض عجلات السَّيَّارات للتَّشقُّق والانفجار.
بفضلِ هذه الرِّحلة ، اكتسبتُ معرفةً أفضل بالسِّنِغال وشعبِه وثقافاتِه. وبسببِ ذلك أيضا ،أدرجت في برنامجي الأوَّل الأولويَّات المُستعجَلة التَّالية: بناء الطُّرق الجيِّدة، وتزويد النِّساء بالمعدَّات اللَّازمة لتخفيف عملهنَّ، وتزويد الجميع بالماء والكهرباء.
بدأتُ العمل بهذا البرنامج المعروفِ باسمِ PUDC (البرنامج الاستعجالي لتنمية المجتمعات المحلِّيَّة)، بدعمٍ كبير من برنامج الأمم المتَّحدة للتَّنمية (PNUD). اليوم. هناكَ دول إفريقيَّة كثيرة تقتدي بنا في هذا المجال.
إنَّ تنمية المناطق الرِّيفيَّة وتطويرها، تعتبر أفضل وسيلة لإيقافِ الهجرة، إلى حدٍّ بعيد. إنَّنا، إذا لم نُهيِّئ لسُكَّان الأرياف فرصًا مناسبة، فإنَّهم لا يُفكِّرون إلَّا في الهجرة. إذا لم نفهمْ هذه الحقيقة، لن نفهم جذورَ موجة الهجرة المُتدفِّقة الَّتي تزلزل أوروبَّا والعالمَ اليوم.
سماع صوت الشعب
إنَّ هذا البرنامج يُشكِّل مَفخرةً لنا، وهو نتيجة مَلموسة لكلِّ مَا رأيتُه وسمعتُه من النَّاس مباشرةً خلال الرِّحلة الَّتي قمتُ بها في أعماق البلد. خلالَ أكثر من سنتين، كنتُ في سفر لملاقاة السِّنِغال في أعماقه، هذا السِّنِغال الصَّامت في معاناته الشَّديدة. قمتُ بكلِّ هذا لسماع صوتِ الشَّعب.
انطلقت الرِّحلة من دكار إلى كيديرا، ثمَّ من ماتَمْ إلى أوسوي، مرورًا بأراضي كجور وباوول وسين وسالوم وجولف وفيرلو وفوتا وبامبوكوباكاووفولادو وبلاد باساريوكازمانس.خلالها أدركتُ، بعمق، العطشَ الشَّديد الَّذي يعيشه النَّاس في بعض المناطق، وكذلك الظَّلام الدَّامس الَّذي هُم فيه، وقسوةَ الأعمال المفروضة على أخواتِنا الرِّيفيَّات، ونقص الطُّرق الجيِّدة لنقلِ المنتجات والغَلَّات الزِّراعيَّة لبيعها في الوقت المناسِب. إن هؤلاءِ المزارعين الأبطال، الَّذين لا يعتمدون إلَّا على سواعدهم لزراعة أراضيهم، تمكَّنتُ مِن مشاهدة الفقر الحقيقيِّ الَّذي يعيشونَه، بأُمِّ عيني.
إنَّ القيام بهذه الرِّحلة كان أمرًا مُهمًا للغاية. فمثل هذه الرِّحلات تجعلكَ أكثرَ تواضعًا وتضامُنًا، كما تطبعُ فيكَ، إذا كان عندَك قلبٌ نابِض ولو قليلًا، مشاعرَ الرَّحمة والعَطف والشَّفَقة. إن هذه المشاهد تُحرِّك فيكَ المشاعرَ الجيَّاشة وأنت تشاهد معاناةَ النَّاس، وتسأل نفسَك: ما هي الغاية مِن العمل السِّياسيِّ؟ أو ماذا أنجزنا، بالفعل، في سبيل حلِّ مشاكل مواطنينا؟
إنَّني أمارس الضُّغوط، بصفة مُستمرَّة، على أعضاء حكومتي، لأنَّ واجبنا المُتمثِّل في الحصول على النَّتائج الملموسة، هو الَّذي ينبغي أن يكون هَمَّنَا الأوَّل والدَّائم، خلالَ هذه المُدَّة الوجيزة الَّتي سنقضيها على رأس الحكومة.
لقد قلبت هذه الرِّحلة الاستطلاعيَّة، رأسًا على عقب، تصوُّري وفهمي للتَّنمية، بل وللحياة، بصفة عامَّة. إن المفهومَ الشَّامل للتَّنمية المُندمجة تشكَّلَ عندي، خلال هذه الرِّحلة، وترسَّخَ لديَّ بعد ذلك، شيئًا فشيئًا.
ذكرتُ في خطابي الأوَّل للأُمَّة،بوصفي رئيسًا للجمهوريَّة، بأنَّ مهامي الجديدة أعتبرُها خدماتيَّة خالصة، أي أنني سأكونُ خادمًا للشَّعب، و لن أجعلَه خادمًا لي. هذه المهام الخدماتيَّة الخالصة تتمثَّل في تقديم الأجوبة المناسبة للتَّحدِّي المُركَّب، المُتمثِّل في بناء الوطن على كافَّة الأصعدة، وتحقيق الاندماجِ الاجتماعيِّ، ومن أجل بناءِ سنغال يشعرُ فيه الجميعُ بأنَّ الوطنَ وطنُهم. وهذا يعني الوصولَ إلى مجتمع يتمتَّع بالاستقرار وتضافر الجهود نحوَ المُثُل المشتركة مِن رفاهية يشترك الجميعُ في التَّمتُّع بها. ولأجلِ هذا، فإنِّي بدأت عملًا طويلَ النَّفَس مِن أجل إيجاد طريقة عادلة لتوزيعِ ثرواتنا. ولكي نتقاسمَ هذه الثَّروات، لا بُدَّ أن تكون متوفِّرة، أوَّلًا، بينما بلدنا السِّنِغال، في سنة 2012،كان يبدو وكأنَّه يلفظ أنفاسَه الأخيرة في المجال الاقتصاديِّ.
وُلِدَ ’’التَّحالُف من أجل الجمهوريَّة’’ في ديسمبر 2008، ولكنَّه حققَّ خطواته الأولى في النَّجاح خلال انتخابات 2009 المحلِّيَّة. وهذا النَّجاح، تمَّ بفضل هذه الرِّحلة الَّتي قمتُ بها في أعماق السِّنِغال، الأمر الَّذي كان يُعتبر رهانًا غيرَ معقول من شخصٍ منبوذٍ مع بضعة أفراد من الأنصار. إن هذا النَّجاح بدأ، الآن، يتحقَّق في الواقع العمليِّ، بعد أن أصبحتُ المعارضَ الأوَّل للرَّئيس واد وحكومته. ولعل مِن سوء حظِّ واد، أنَّه لم يدرك هذه الحقيقة إلَّا في وقت مُتأخِّر، بعد أن فاتَه القطار!.
’’يونو يوكوتي’’ أو الطَّريقُ الحقيقيُّ للتَّنمية
كانَت الحملة الانتخابيَّة في عام 2009 المحطَّة الأولى في الطَّريق الَّذي سيوصلني إلى السُّلطة، ليس تعلُّقًا بها، ولكن لتنفيذِ الإصلاحات السِّياسيَّة الَّتي كنتُ أراها ضروريَّة.
إنَّ السِّياسة لا تعني الانتصارَ على الخصمِ وإطلاق عبارات قاتلة وتشويش سمعة الطَّرف المقابل، بل إنَّها بالأساس تصميمُ تصوُّرات واقتراحُ حلولٍ عمليَّة لتتقدَّم الأمور إلى الأمام. للوصول إلى هذا الهدف، لا بُدَّ أن يكون صوتُك مَسموعًا.
كانَت رحلتي الَّتي قمتُ بها داخل البلد، تنقطع في بعض الأحيان ونحن في مُنتصَف الطَّريق، في شمال السِّنِغال أو في جنوبِه. وكان هذا الأمر يرجع إمَّا إلى نفاد الوقود أو اقتراب الموازنة مِن النَّفاد، بحيث لا يبقى إلَّا ما يُمكِّننا من الرُّجوع إلى دكار، ريثما نجد دعمًا ماليًا آخَر.
لم تكن تتوفَّر لديَّ الوسائل اللَّامحدودة الَّتي تتمتَّع بها الأحزاب الكبيرة للقيام بالرِّحلات السِّياسيَّة كما ينبغي.
وكانت هذه الحَملة، هي المُناسَبَة أيضًا للتَّأكيد على أن السِّياسةَ ليسَت استثمارًا للحصولِ على مزيد من المال، وإنَّما تعني الإيمانَ بأقوالنا ونوايانا.
في هذه المرحلة، كان ’’التَّحالف من أجل الجمهوريَّة ’’حزبًا وليدًا للتَّوِّ، ولم يكن سيرُ الأمور فيه يعتمد إلَّا على المُمولِّين المُشجِّعين له والدَّاعمين الَّذين يُنفقون عليه مِن جيوبِهم السَّخيَّة.
بدأت هذه التَّضحيات مِن مساهمات أعضاء الحزب، مهما كانت وسائلهم المادِّيَّة. ولم يكن بُدٌّ، أيضًا، من إقناع بعض المعارضين القُدامى لواد للالتحاقِ بنا. وكان هذا الأمر صعبًا، لأنَّهم كانوا يعتبرونَني مِن النِّظام الَّذي أدَّعي محاربته اليوم. وكان من الصَّعب جدّا، عدمُ تصديقهم في زعمهم هذا، ولكنِّي كنتُ أقول لهم بأنَّني لم أتخلَّ عن معسكر واد بطيب نفسِي، ولكنْ لأسبابٍ موضوعيَّة، تمثَّلَت في الأعمال والقرارات التَّعسُّفيَّة الَّتي كان يصدرها واد ضدِّي.إن هذه الأمور الموضوعيَّة هي الَّتي سبَّبَت القطيعة بيني وبينَه،وجعلتني أُصبح معارضًا لحزبي السَّابق، لأنَّه كان قد اتَّخذَ اتِّجاهًا مُخالفًا لرؤيتي. فقد أدَّى الحزب الحاكم خدمةً كبيرة لي عندما تجاوز كلَّ الحدود في سبيل مُحاربتي. فقد سجن عبد الله سالي سال بتهمة أنَّه أرسل لي مبالغ ماليَّة من الغابون!.
في أحدِ الاجتماعات السِّياسيَّة المُخصَّصة لمحاربتي، جاء مُثيرو الشَّغَب لإحداث البَلبلة، وحدثَ اضطرابٌ أدَّى إلى سجن طالبة جامعيَّة اسمها تيريز فَايْ بدعوى أنَّها كانت تسعى لتنفيذ مؤامرة ضدَّ الدَّولة. وإثرَ هذه التُّهمة، ذهب وزيرُ العدل نفسُه إلى القناة التلفزيونية الوطنيَّة ليتحدَّث عن انقلاب ضدَّ الدَّولة، مع تقديم أسماء مُدبِّري هذا الانقلاب المزعوم إلى الجمهور.وهنا لا بُدَّ أن أذكرَ بأنَّ هذه الملاحقات توقَّفَت بسرعة.
منزلي مراقب دائمًا
كان منزلي تحتَ مراقبة دائمة، لأجلِ هذا، لم أكنْ أسمح لنفسي بتركِ أيٍّ مِن أمتعتي وملفَّاتي في البيت، وكنتُ أحملُها معي حتَّى حين أركب الطَّائرة.
في يوم من الأيَّام، كان الوضعُ مُثيرًا جدًا، ذلك أنِّي كنتُ على سفر مع زوجتي مريم إلى باماكو. وكالمعتاد، فإنِّي لا أقوم بتسجيل أمتعتي بنفسي في المطار، مخافةَ أن يعرفوا بأنَّها لي فيدسُّوا فيها أمورًا مَحظورة، لأنَّه لا بُدَّ مِن أخذ جميع أنواع الحيطة. وهذا الموقف لم يكن مَبنيًا على هوسٍ وهميٍّ، بل أقول لكم بأنَّه جرت، بالفعل، محاولة القيام بمثلِ هذه الأمور ضدِّي، لأجلِ هذا، كان يتعيَّن عليَّ أن آخذَ كلَّ حذَري. وحدثَ أنَّنا جلسنا في الطَّائرة قريبين من الرَّئيس الَّذي خلفَني على رأس الجمعيَّة العموميَّة الوطنيَّة. وكُنَّا، أنا وزوجتي وهو، في صفٍّ واحد. نزلنا في باماكو، أمَّا هو، فواصل سفرَه. كان الجوُّ مُتوتِّرًا بعضَ الشَّيء عند النُّزول، ذلك لأنَّ مريم كانت تدرك بأنَّه يتعيَّن عليَّ أن أقوم بحملِ حقائبي إلى مخرج الطَّائرة. عندئذٍ قالت لي: “لا ينبغي أن تظهرَ في شكلِ رجلٍ فقدَ سُلطتَه، انزلْ وواصلْ سيرَك، سأقوم أنا بمحاولة حملِ حقائبِك بدلًا منك”.
أخذتُ محفظتي اليدويَّة فقط، وسلَّمتُ على زميلي السَّابق. أمَّا مريم، فحاولت حملَ الحقيبتَين الثَّقيلتَين، ثمَّ هرعَ لمساعدتها مضيف الطَّيران حتَّى باب الطَّائرة. ولِحُسن الحظِّ، فإنَّ الشَّخص الَّذي جاء لاستقبالنا، لمَّا رأى زوجتي تحاول حملَ الحقيبتَين، ساعدَها في الحال. لم يكن بإمكاني أن أحملَ هاتين الحقيبتَين أبدًا، لأنَّها ما كانت لتقبلَ ذلك، ولأنَّها كانت مُستعدَّة لتُضحِّي بحياتها في سبيلِ حملهما. إنَّني مَدين لمريم بدَينٍ عظيم، لكونها زوجة وفيَّة ومناضلة بطلة في حزبي. إنَّنا عِشنا أوضاعًا صعبة للغاية، ولكنَّها لم تتزحزح.
في السَّاحة السِّياسيَّة، كانت الأوضاع تنفرج، شيئًا فشيئًا، بالنِّسبة لي، وحصلَت إخفاقاتٌ انتخابيَّة كانت تكشف للجميع ضعفًا واضحًا يعاني منه الحزب الحاكِم. من هذه الإخفاقات أن كريم واد، الابن المُدلَّل للرئيس،أخفقَ في الفوز ببلديَّة دكار، إضافة إلى كونِه هُزِمَ هزيمة نكراء في المكتب الانتخابيِّ الَّذي صوَّت فيه . أمَّا حزبي، فقد حقَّقَ انتصارًا ساحقًا في مناطق مُتعدِّدة، وأصبحتُ مِن جديد عُمدة لمدينة فاتيك بدعمٍ من تحالف “بينو سيكيل سنغال ” (التَّحالف مِن أجل رفع معنويَّات السِّنِغال).
نجحتُ في تحقيق رهاني هذا بعدَ أربعة أشهر فقط من طردي من رئاسة الجمعيَّة العموميَّة الوطنيَّة.
جاءَت الأزمة الدُّستوريَّة في 23 يونيو 2011 لتُكمِلَ حلقات الطَّلاق البائن بين الرَّئيس عبد الله واد والغالبيَّة العُظمى من الشَّعب السِّنِغاليِّ. حدث هذا بعد أن أبدى واد حرصَه على فرضِ ابنِه على رئاسة الجمهوريَّة من خلال إجراءات إصلاحيَّة دستوريَّة لتحقيق هذا الغرض، ولكنَّه هيَّجَ الشَّعبَ السِّنِغاليَّ ضدَّه، وجرى تنظيم مظاهراتٍ عنيفة للغاية في البلد، لم يُرَ لها مثيلٌ منذ عشر سنوات، واضطرَّت الحكومة إلى التَّراجع، الأمر الَّذي أثبتَ أن سلوكَ طريق آخَر إمكانيَّةٌ قائمة.
تحالف ” بينو سيكيل سنغال “
تمَّ عقدُ اجتماعات سياسيَّة كثيرة وضخمة، شاركَ فيها حزبي وقوى سياسيَّة أُخرى في إطار تحالف “بينو سيكيل سنغال”. كنتُ أدرك تمامًا أن مثل هذه النَّشاطات السِّياسيَّة في المدن مُهمَّة للغاية وضروريَّة، لكن مع ذلك، لا بُدَّ مِن التَّوغُّل في أعماق القُرى والأرياف والأماكن النَّائية أيضًا، لأنَّ الذَّهاب لملاقاة السِّنِغاليِّين هو الَّذي يساعدنا على كسب القلوب،و بالتَّالي النَّجاح في الانتخابات.
عندَ اقتراب سنة 2012،كانت جميعُ الإشارات حمراء بالنِّسبة للحزب الحاكِم. وأخطرُ هذه الإشارات كانت تتمثَّل في الخبرِ الَّذي كان يُفيد بأنَّ دفعَ رواتب العاملين في الوظيفة العموميَّة السِّنِغاليَّة، مُعرَّضٌ للتَّوقُّف بسببِ صعوبات ماليَّة للدَّولة، معَ العِلم بأنَّ انتظامَ دفعِ هذه الرَّواتب، كان من المكتسبات الثَّابتة منذ الاستقلال
قبلَ الانتخابات بأشهر، كان الصَّحفيُّون والمحلِّلون السِّياسيُّون يصفونَني بأنَّني المنافِس الضَّعيف الَّذي يتقدَّم بهدوء، وربَّما يُفاجئ الجميع. وكان لي شعار آخَر أقلُّ إثارةً هو “يونو يوكوتي” (طريق التَّنمية).
ما كنتُ أريد أن أكونَ فقط، زعيم تيَّار”أيُّ أحدٍ آخَر إلَّا واد” (TSW)،ولكنِّي كنتُ أريد،أيضًا،أن أبرهنَ على إرادتي الصُّلبة لإجراء تغييرات عميقة في السِّنِغال،لدفعِه نحوَ مستقبل أفضل كثيرًا.
فمنذُ الجولة الأولى،حصلتُ على المركز الثَّاني،حيث حصل الرَّئيس المنتهية ولايتُه على 34.81 في المائة، بينما حصلتُ أنا على 21.58 في المائة.
جدير بالذِّكر أن واد كان قد استنفد كافَّة ناخبيه المحتمَلين، بحيث لم يعد لديه أيُّ مخزونٍ إضافيٍّ من الأصوات. وكان الجوُّ مُتوتِّرًا جدًا بين الجولة الأولى والثَّانية من الانتخابات،حتَّى أن الصَّحافة العالميَّة كانت تطرح تساؤلات، وتتوقَّع حدوثَ مظاهرات عنيفة،ولكن قوَّات الأمن قامَت بدورها في تهدئة الأوضاع ومنعِ جميع الأطراف من تجاوز الحدود المَسموح بها.وانضمَّ إلى جانبي كافَّة أحزاب مجموعة مُترشِّحي المعارضة فيما بين الجولة الأولى والثَّانية من الانتخابات.
في نهاية الجولة الثَّانية، انتُخِبتُ بنسبة 56.80 في المائة من مجموع الأصوات، بتاريخ 25 مارس 2012.
اعتراف واد بالهزيمة
عشيَّة هذا اليوم،وقبل إعلان النَّتائج النِّهائيَّة،اتَّصلَ بي الرَّئيس المنتهية ولايتُه ليُهنِّئني بفوزي عليه،مُعترفًا بهزيمته. أحسَّ أنَّه يشعر بالمرارة، لأنَّه تكلَّم معي كرجل دولة حقيقي ومسؤول، وبدأت أُحيي في نفسي الأملَ بأنَّ العشرين سنة الَّتي عشناها معًا، ستأخذ، الآن، مسارًا أكثرَ هدوءًا، ولكن مع الأسف الشَّديد، فإنَّني اكتشفتُ في سنة 2012 أن عبد الله واد بدا حانقًا وساخطًا إلى أبعد الحدود.
في 20 أبريل 2012، أدَّيتُ اليمينَ الدُّستورية، بعد أن أصبحتُ الرَّئيس الرَّابع لجمهوريَّة السِّنِغال. تمكَّنتُ مِن تحقيق هذا الانتصار، بفضلِ مسيرتي الطَّويلة المصحوبة بالاكتشافات والاستطلاعات والعملِ الميدانيِّ المُنظَّم، ومعرفتي العميقة بالأوضاع الَّتي تنتظرني.