كُنَّا نحن ثلاثة أبناء لواد، حسب وصفِ الصَّحافة، وهؤلاء الأبناء هُم: إدريسا سيك، الابن المُستعجِل، وكريم واد، الابن المُدلَّل، وأنا، الابن الخفيُّ.
وكانت لكريم رابطةُ الدَّم مع والده، وهي أقوى من جميع الرَّوابط، ولكنِّي لم أكن أتوقَّع أن واد، الَّذي كنتُ مُعجبًا به، سيقبل أن يُضحِّي بقِيَم الجمهوريَّة ويحتقرَها إلى هذا الحدِّ، مِن أجل إرساء دعائمِ حُكْمٍ أُسَرِيٍّ في السِّنِغال.
كان الرَّئيس واد قد أنهى فترته الرِّئاسيَّة الأولى، وكانَت مُتألِّقة، ولكنَّ كبار السِّنِّ في الحزب، كانوا قد شعروا بأنَّهم عُزِلُوا لصالح الشَّباب الَّذين لم يتجاوزوا بعدُ أربعين سنة عند وصول واد إلى سُدَّة الحُكم.
والسَّبب في ذلك يرجع إلى أن الرئيس واد كان قد اعتمدَ على الشَّباب في سبيل انتخابِه، كما أنَّه أيضًا، كان قد وضعَ برنامجًا إنمائيًا، على طريقة روزفلت، تضمَّن بناءَ مُنشآت وبنى تحتيَّة ضخمة، بالإضافة إلى تحريرِ الاقتصاد مِن جميع القيود.
كنتُ دائمًا أتحمَّل مسؤوليَّتي بقيامي بمهامي إلى جانب واد، وكنتُ قد أمضيتُ معه إحدى عشرة سنة في المعارضة، وسبع سنوات في السُّلطة. والأمر الَّذي أثار سخطي وغضبي عليه سنة 2008، هو شعوري العميق بالظُّلم الَّذي تعرَّضتُ له.
إنَّ التزامي بالعمل مع واد، كان كاملًا، مثلما كان وفائي له مُطلقًا.
المستشار والوزير، ورئيس الحكومة
عملتُ تحت إدارة واد، أوَّلًا، كمستشار له، ثمَّ وزيرًا، ثمَّ رئيسًا للحكومة، ثمَّ رئيسًا للجمعيَّة الوطنيَّة.
أُذكِّرُ هنا بالأحداث كما عشتُها:خلال هذه الفترة، تحدَّثَت تقارير صحفيَّة كثيرة عن فسادٍ ماليٍّ مُتعلِّق بتنظيم قمَّة مُنظَّمة المؤتمر الإسلاميِّ بدكار. وكانت مسؤوليَّة تنظيم هذه القمَّة تقع على عاتق كريم واد، ابنِ الرَّئيس، وكانت هناك مبالغ ماليَّة ضخمة أُنفِقَت في سبيل بناء المنشآت الضَّروريَّة لعقدِ هذه القمَّة.
في هذا الإطار، أبدَت اللَّجنة الاقتصاديَّة العامَّة للجمعيَّة الوطنيَّة (البرلمان)، والَّتي ينتمي رئيسها للأغلبيَّة الرِّئاسيَّة، رغبتَها في مُساءلة كريم واد، وكذلك عبد الله بالدي، بوصف الأوَّل رئيسًا للوكالة الوطنيَّة المُكلَّفة تتظيم قمَّة مُنظَّمة المؤتمر الإسلامي، والثَّاني مُديرًا تنفيذيًا لها. وكانت مثل هذه المساءلات تدخل فعلًا وبحقٍّ ضمنَ صلاحيَّات الجمعيَّة الوطنيَّة.
إنَّ الأمرَ يخصُّ ابنَ رئيس الجمهوريَّة من دون شكٍّ، لكنَّنا في نظامٍ ديمقراطيٍّ، بحيث لا أحد فوقَ المساءلة، ولا يُعذَر أحدٌ بجهل القانون الَّذي يُطبَّق على الجميع.
بوصفي رئيس الجمعيَّة الوطنيَّة، فأنِّي أضعُ توقيعي على رسالة الاستدعاء الرَّسميَّة الموجَّهة إلى واد الابن.
وكان هذا الموقف هو الَّذي يُمليه عليَّ واجبي، ولو رفضتُ التَّوقيع على هذه الرِّسالة، لكنتُ مُخالفًا للقانون، وهو الأمر الَّذي لا يُمكن تخيُّلُه، ولستُ مُستعدًا للقيام به.
إنَّ رئيس الجمعيَّة لا يُشارك في هذه اللَّجنة الَّتي تعدُّ برنامجها مثل بقيَّة اللِّجان، كما ترى. وعندما يجتمعُ الرُّؤساء، يتمُّ استعراض جدول أعمال كلِّ لجنة برلمانيَّة. وهنا يحقُّ لأعضاء جميع اللِّجان أن يُوجِّهوا مُساءلةً إلى أيِّ شخصٍ أرادوا بخصوصِ هذه القضيَّة أو تلك.
مساءلة كريم واد
في ما يتعلَّق بمساءلة كريم واد، لم يُبدِ أيُّ برلمانيٍّ في اللَّجنة الماليَّة العامَّة أدنى اعتراض، بل العكس، طالبوا جميعًا بهذه المساءلة قبلَ بدئها وخلالَها وبعدَها. ولم يكن موقفُهم مبنيًا على أدنى مشاعر العِداء.
هل يُمكن للإنسان أن يتصوَّر مُطالبة الرَّئيس، في الولايات المتَّحدة أو فرنسا، رئيسَ البرلمان أو مجلس الشُّيوخ بالاستقالة، لأنَّه تجرَّأ على توجيه مساءلة إلى أحدِ أقاربه؟
عندما عيَّنَني السَّيِّد واد رئيسًا للجمعيَّة الوطنيَّة،وجَّهَ إليَّ هذه الكلمات: “لا بُدَّ لي مِن جمعيَّة وطنيَّة تتميَّز بالقطيعة عن سابقاتها، وانتظر ذلك منك”.
بعد هذه الحادثة، فهمتُ معنى القطيعة الَّتي كان يعنيها. فمثلًا: في يوم من الأيَّام، استيقظتُ فإذا بي مُتَّهمًا بالتَّجاوز والتَّجرُّؤ على توجيه المساءلة إلى ابن رئيس الجمهوريَّة، وأنَّه يجب عليَّ الخضوع للمقصلة بسبب هذه الجُرأة، وأن أُقدِّمَ استقالتي أيضًا!.
ما أزال أتذكَّر كلماتِ واد في الهاتف، قائلًا: “يجب عليك أن تردَّ إليَّ ما سبقَ أن أعطيتُك، لأنَّني لم أعد أثق بكَ”.
أجبتُه على الفور: لا!
ثمَّ سادَ صمتٌ في الهاتف، وأعتقد أن الرئيس واد لم يكن ينتظر أن يقاومَه، على هذا النَّحو، ماكي صال، خادمُه الوفيُّ والأمين.
إساءة التقدير والفهم لمعنى الشرف عندي
لقد أساءَ تقديرَه وفهمَه لمعاني الشَّرف والتَّعلُّق بالعدالة عندي.بهذه الطَّريقة، أبعدَ الرَّئيس واد كلَّ الَّذين كان يحسُّ بظلالِهم في جانبه. وهكذا عزلَ إدريسا سيك أيضًا.
إنَّ واد كان غارقًا في الارتياب المَرَضي النَّاتج عن السُّلطة الانفراديَّة، وكان يظنُّني في مناورات دائمة ضدَّ سُلطته، وأنَّني لمَّا استهدفتُ ابنَه، كنتُ أقصد الهجومَ عليه شخصيًا.
محيط واد المباشر أيضًا، لعب دورا كبيرا في تأليبه عليَّ بصفة مُؤكَّدة في هذه القضيَّة. إنَّه تعرَّض لتأثيرات سيِّئة ضدِّي. وكانت الفرصة ذهبيَّة للتَّخلُّص مِن خصمٍ سياسيٍّ مُحتَمل لدى البعض أيضًا.
فقدتُ أُمِّي في 23 ديسمبر 2008، وكنتُ في 4 أكتوبر 2008، قد وقعَّتُ على رسالة الاستدعاء الموجَّهَة ضدَّ كريم واد. وتفاعلَت الصَّحافة كثيرًا مع هذه القضيَّة، كما استغلَّها المُتملِّقون للرَّئيس لتحريضه ضدِّي.
إنَّ الطَّريقة الَّتي تمَّت بها كلُّ هذه الأشياء، زادَت مِن استيائي.
طلب الاستقالة
كان بإمكان الرَّئيس أن يدعوني ويقول لي: هنالك مشكلةٌ مَا، ودَعْنَا نحلُّها معًا، ولكنَّه طلبَ منِّي الاستقالة في الحال، لأنِّي ارتكبتُ خطأ في تقديره هو. هذا الأمر غير مقبول.
إنَّ استدعاءَ ابن الرَّئيس للمساءلة تمَّ، أوَّلًا، بواسطة اللَّجنة الاقتصاديَّة العامَّة كما سبق أن قُلت، ثمَّ، ثانيًا، بواسطة رسالة من رئيس الجمعيَّة الوطنيَّة لإخطار السُّلطة التَّنفيذيَّة.
كلُّ ما قمتُ به، كان مُنسجمًا مع الإجراءات القانونيَّة في هذا المجال.
رفضتُ إذًا أوامر الرَّئيس بالاستقالة مِن منصبي. كان بإمكاني أن أُذكِّرَ واد بأنَّني، في سنة 1998، كنتُ مِن بين الأشخاص الَّذين آمنوا بأفكاره ورفضوا مغادرتَه، في الوقت الَّذي كان غالبيَّة النَّاس يتركونَه، لأنَّهم لم يعودوا يؤمنون بخُطَّتِه في الوصول إلى السُّلطة، ولكونِه شيخًا أكلَ عليه الدَّهرُ وشَرِبَ.
ولكنِّي لم أُذكِّرْ واد بشيء من هذا وَلَا ذاك، لأنَّ المكيدة والمؤامرة ليستَا من طبيعتي، ولا في تربيتي، ولا في فلسفتي في الحياة.
إنَّني لا أومن بالتَّحايل، ولا بالضَّربات الخسيسة المسموح بها، كما يبدو، في المجال السِّياسيِّ. صحيحٌ أن منصبي لم يكن مُلْكًا لي، وأنِّي كنتُ مُقتنعًا بأنَّني سأغادره يومًا ما، وكنتُ أومن بأنَّ الأمر انتهى بالنِّسبة لي ما دام الرَّئيس واد الَّذي يتمتَّع بالأغلبيَّة لم يعد يرغب في العمل معي، ولكن مع كلِّ هذا، كنتُ أريد أن أقاوم وأخوض المعركة إلى نهايتها، عملًا بنصيحةِ والدي بأن أُغادر مرفوعَ الرَّأس، والسَّلاح في قبضة يدي، استعدادًا للمعركة المقبلة. هذا عينُ ما قمتُ به بالضَّبط.
رفض التنحي
جُنَّ جنونُ خصومي، لأنَّ ماكي صال يرفض أن يتنحَّى. إذًا، لا بُدَّ مِن تعديل الدُّستور وتخفيض ولاية رئيس الجمعيَّة الوطنيَّة إلى سنة واحدة بدلَ خمس. وكما هو متوقَّع، تمَّ التَّصويت على هذا التَّعديل.
بعدَ عزلي مِن منصبي، أصبحتُ مجرَّد نائبٍ برلمانيٍّ عاديٍّ. وفي مساء هذا اليوم نفسِه، أخذتُ قراري بالاستقالة من جميع مناصبي كنائبٍ برلمانيٍّ، وعمدة لمدينة فاتيك، وكعضوٍ في الحزب الدِّيموقراطيِّ السِّنِغاليِّ.
القطيعة القاسية
في التَّاسع مِن نوفمبر 2008 ، كنتُ قد أصبحت مواطنًا بسيطًا ومُجرَّدًا من جميع المناصب.
إنَّ قطيعتي مع الرَّئيس واد كانَت قاسيةً للغاية، وذلك لأنَّني، تقريبًا، خلال عشرين سنة كنتُ أناضل بجانبه. وبين عشيَّة وضُحاها، أصبحتُ الشَّخصَ المنبوذ والعدوَّ اللَّدودَ له ولكلِّ محيطه. في مثل هذه الظُّروف، يتجنَّب النَّاس الالتقاء معكَ في أيِّ شيء، أو في أيِّ مكان، وتكون في وحشةً قاتلة. ولِحُسن الظَّنِّ، كان هناك دائمًا الأصدقاء والأقارب الَّذين فهموا جيِّدًا ما يحدث، وأنَّه أمرٌ لا يُمكن قبوله.
إنَّ وجودَ مثل هؤلاء الأشخاص، يسمح للإنسان بالتَّقدُّم نحو الأمام مهما كانت الظُّروف قاسية عليه. فَلِمُناهضةِ هذه النَّزعة الاستبداديَّة، قمتُ بتعديل الدُّستور بعد انتخابي رئيسًا للجمهوريَّة.
لم أكتفِ بالمراجعة الدُّستوريَّة، لتخفيض مُدَّة ولاية رئيس الجمهوريَّة مِن سبع إلى خمس سنوات، لكنِّي حدَّدتُ ولاية رئيس الجمهوريَّة، بحيث لا يمكن تجديد انتخابِه أكثر من مرَّة واحدة.
وهذا الأمر أصبحَ مِن المكتسبات، فالآن لا يُمكن لأحد أن يتصرَّف في فترة الولاية، ولا أن يُعادَ انتخابُه بشكلٍّ مُستمرٍّ.
إنَّ السِّنِغال نجا مِن مهزلة الرَّئيس الماريشال مدى الحياة، وأرجو أن لا يقعَ في فخِّ المحسوبيَّة!.
إنَّ الرَّئيس عبد الله واد، لمَّا أراد تعديل الدُّستور، لكي يتمكَّن مِن تعيين نائب لرئيس الجمهوريَّة، جُوْبِهَ بمعارضة شعبيَّة عنيفة وواسعة خلالَ ما أصبح يُسمَّى (23 يونيو).
في 19 نوفمبر 2008، تمَّ عزلي من الجمعيَّة الوطنيَّة بواسطة 111 صوتًا، مع معارضة 22 نائبًا برلمانيًَّا. ومجلس الشُّيوخ كذلك صادق على قرار العزل بإجماعٍ منقوصٍ بشخص واحد، وهو عضو مجلس الشُّيوخ لإقليم فاتيك، السَّيِّد وولا نجاي.
تجدر الإشارة أن هذا الأخير كان الرَّئيس السَّابق للَّجنة الاقتصاديَّة العامَّة التَّابعة للجمعيَّة الوطنيَّة، وهو الذي رفضَ الرُّضوخ لأوامر واد.
وبعدَ عزلي، أصبح ممدو سيك رئيسًا للجمعيَّة الوطنيَّة.وهكذا انهارَ جزء من حياتي، وأصبح يتعيَّن عليَّ النُّهوض من بين هذه الأنقاض وبناء كلِّ شيء مِن لا شيء!
عشيَّة عزلي بهذا التَّصويت، دعوت إلى عقدِ مؤتمرٍ صحفيٍّ، استجابَ له الصَّحفيُّون من كلِّ حدب وصوب.
ومنذ بداية هذه القضيَّة، كنت أرفض الحديثَ عنها، ولم أردَّ على أيِّ هجوم، كما لم أُفنِّد أيَّة شائعة كاذبة في حقِّي. وسكوتي أثارَ ضجَّة أكبر مِمَّا كان سيحدثه كلامي لو تكلَّمتُ. وكان سكوتي يحملُ خصومي على إرسال وابل من الاستفزازات والضَّربات. وكان المواطنون يعرفون جيِّدًا هويَّة المعتدي!.
في ساحةِ البيت الَّذي اكتريتُه، بدأتُ أجيب على أسئلة الصَّحفيِّين، قبل أن أُفجِّرَ القنبلةَ قائلًا: إنِّي أعلن الاستقالةَ من كافَّة المناصب الَّتي أُنْتُخِبْتُ فيها: عُمدة بلديَّة فاتيك، وعضويتي كنائب في البرلمان، وكذلك أستقيل من الحزب الدِّيمقراطيِّ السِّنِغاليِّ، الَّذي ناضلت فيه مدَّة عشرين سنة!.
وأنهيتُ اللِّقاء الصَّحفيَّ مُعلنًا ما يلي:”أرفضُ التَّنكُّر لمبادئي في سبيل عيشٍ رخيص”.
بعضُ مَن كانوا سندًا لي، لم يفهموا موقفي هذا. وكانوا يقولون: هو تعرَّض لكلِّ هذه المتاعب، ثمَّ انتهت به خاتمة المطاف إلى الاستقالة!.
أمَّا أنا، فكانت استراتيجيَّتي بسيطة، إذ كانت تهدف إلى حملِ واد على عزلي بواسطة قانون، سيتحوَّل ضدَّه بعدَ ذلك، بصفة عنيفة. فهو ربحَ في المدى القريب، ولكنَّه سيدفع ثمنًا باهظًا لموقفه هذا!
وباستقالتي، حصلتُ على حرِّيَّتي من جديد، ولم يعد للرَّئيس واد ولا لحزبي السَّابق أدنى وصاية عليَّ. ويجبُ الآن، أن أستعدَّ لأصبحَ الخصمَ السِّياسيَّ الأكثرَ صرامةً لواد باسم مبادئ الجمهوريَّة.